سعيد لوصيف

التفكير في المجتمع الجزائري المعاصر

Prisma, le 19 novembre 2020

مقدمة

يعتبر التفكير في المجتمع الجزائري و ظواهره النفسية الاجتماعية نشاط شيّق و شاق في الوقت ذاته: شيّق لأنّه يسمح للباحث النفسي الاجتماعي الاستمتاع بلذّة الفهم و استنطاق المستتر لإعادة بناء حقيقة لم يدركها البعض، أو لا يريدون إدراكها لأنّها تزعجهم و ترفع الستار عن عجزهم و هشاشتهم في مواجهة شروط التحوّل. وشاق لأنّه يفرض عليه الصرامة و الالتزام العلميين وتجاوز تمركز الذات، دون التفريط في ذاتية بناء الواقع و إعادة تشكيله انطلاقا من تناول نقدي يتجاوز البديهي و المألوف، و يتخطّى هوامش المحظور، و يتعدّى قوالب التماثل، و يرفض تصوّر المجتمع من منظور قيمي و معياري و حتمي ينحصر في رؤية كوسمولوجية مغلقة للكون، لاغيا فكرة التفتح و التعددية الأنطولوجية اللّتين تأسس عليهما الفكر البوبيري و الإبستيمولوجيا الحديثة. 

و مهما يكن، فإنّ الدراسة الحالية تهدف إلى تقديم قراءة نقدية لعلاقة الجامعي الجزائري بسيرورة البحث الاجتماعي و فهم المجتمع وظواهره ؛ إذ يلاحظ أن العلوم الاجتماعية في الجزائر لم تتطوّر، بل هي في تراجع منذ ثلاث عشريات، بالرغم من التزايد الذي عرفه عدد الجامعات الذي بلغ حاليا الستون (60) جامعة. ومن المفارقات أيضا أنّ فعالية هذه العلوم ومكانتها كانت أحسن بكثير خلال السبعينيات من القرن الماضي في الوقت الذي لم تكن الجزائر تمتلك إلاّ عددا قليلا من الجامعات، وعددا قليلا من الأساتذة في مراتب بروفيسور وأستاذ محاضر.

و بالفعل، فإنّ المتتبع لتطوّر الجامعة الجزائرية منذ الاستقلال و لمسار الجامعيين في العلوم الاجتماعية، يستشف أنّ النسق الاجتماعي و الوضعية الثقافية للمجتمع و النظام السياسي لم تكن من أولوياتهم تكوين مثقفين مستقلين قادرين على بلورة تصوّرات و مقاربات نفسية اجتماعية ضمن مجالات اجتماعية (الديني، السياسي، الثقافي…الخ) مستقلة كما أشار إليها بورديو (Bourdieu) في كتاباته ، بل وجّه المجهود العام أساسا نحو تكوين جامعيين و متعلمين عضويين – أو ما يمكن أن أسمّيه أيضا بــــ “متعلّمي المـﭭابرة” – انحصر دورهم في مراحل لاحقة من تاريخ الجزائر المستقلة – كما هو الحال عليه حاليا – في عمليتي التبرير و التستّر على الإختلالات و التناقضات الاجتماعية و الانحرافات السياسية، و إنتاج خطاب إيديولوجي انغلاقي، عوض أن يتجه هذا الدور نحو الفهم و التفسير العقلاني المتزن للمجتمع وآليات التفاعل الاجتماعي و التأسيس لشروط التحوّل الاجتماعي و السياسي. 

وفي هذا السياق تحاول الدراسة الحالية أيضا، تصويب الاهتمام نحو فهم أعمق للمعرفة الاجتماعية “المسوّقة” في الجامعات الجزائرية انطلاقا من تحليل نفسي اجتماعي، ومحاولة فهم بعض محدّدات القطيعة غير الطبيعية للمواضيع والبحوث الاجتماعية مع الواقع المجتمعي”المحلّي”، مع التفطن والتأكيد أنّ البنيات الاجتماعية الحالية لا تشجّع على إنتاج معارف اجتماعية ذات نوعية تمكّننا من بلورة فهم أشمل لأبعاد الأزمة النسقية التي تتخبّط فيها الجزائر حاليا، ورهاتات التحوّلات المطلوبة والمفروضة عليها مستقبلا.

أوّلا: التصوّرات الحتمية و مخاطر المطلقية الدوغمائيه

تظلّ تداعيات التصوّرات الحتمية ؛ و بخاصة في مجتمعات “الأزمات المستدامة”، عويصة و تبقى تشكّل خطرا محدقا على فكرة الحرية ذاتها على حدّ تعبير كارل بوبر (Karl Popper). و في هذا الإطار، يظهر أنّ النظرية السوسيولوجية الحديثة ليست اقترابا حتميا لواقع اجتماعي يتميز بالثبات و السكون – إلاّ ظاهريا -كنسق مغلق، و إنّما هي بناء مفاهيمي لواقع اجتماعي، يتميّز في العمق بالتعدّدية و الديناميكية والتناقضات. فالنظرية السوسيولوجية هي توثيق لغوي لصورة من الصور المتعدّدة للمجتمع و تفاعلاته الظاهرة و الكامنة في الحياة الاجتماعية اليومية، تبتعد عن الموقف الحتمي – المعياري عند محاولة فهم السلوك الإنساني و التفاعلات و الممارسات الاجتماعية. و كما يشير باسرون (Passeron) ، فإنّ دور العلم يتحدّد أساسا في السعي نحو ضبط مصطلحاته بطريقة رمزية، غير أنّ الصعوبة تكمن – حسبه – في “العلاقات غير المستقرة و غير المثيرة للاستقرار بين اللغة النظرية البلاغية بمفاهيمها، و مستلزمات الملاحظة على أرض الواقع عند تعاملنا مع أيّة حقيقة من الحقائق”. إذن لماذا يراد للجزائري أن يجعل (بضمّ الياء) منه رهينة حتميات لا يمكن فهمه إلاّ من خلالها، غير مبالين في ذلك بوجوده كنتاج لديناميكيات مجتمعية وتاريخية؟ 

إنّ الموقف الحتمي هو تفكير جاهز ومجمّد ودوغمائي ، يرتبط ارتباطا وثيقا بصورة الماضي المقدّس ويعبّر بشكل أو بآخر عن هشاشة أنصاره من الجامعيين الجزائريين في مواجهة إشكاليات حاضر المجتمع الجزائري ورهانات مستقبله. إنّ الحتمية لا يمكن أن تفسّر بشكل مطلق ممارسات الجزائري وسلوكه النفسي ومعاشه الاجتماعي، بل لا يمكن لها أن تفسّر وجوده على ضوء فهم علمي لسيرورة المجتمع السوسيو- تاريخية. وعليه، لماذا يصرّ البعض من الجامعيين على انتهاج التصوّر الحتمي في فهم المجتمع وظواهره النفسية الاجتماعية، في الوقت الذي يمكنهم من الناحية الفلسفية والمنهجية، القبول بفكرة الحرية، من دون أن يشكل ذلك عائقا أمام تفكيرهم في الواقع المتعدّد بطرائق وأساليب علمية؟ وكما يشير برلان (Berlin) فإنّه من الصعوبة بمكان القبول بفكرة الحتمية في تناول النشاط الإنساني، لأن ذلك معناه أن مفهوم الحرية الإنسانية يفقد دلالته الفكرية وامتداداته المجتمعية. 

وعليه، فإذا كان التصوّر الحتمي صحيحا، فهذا يعني بالضرورة أنّ حرية الاختيار تبقى وهما مطلقا، وكأني بهذا يراد أن يقال لنا أنّ أفعالنا اللاحتمية إنّما تقع ضمن دائرة جهلنا بالأفعال المحتومة علينا. و أستسمح القارئ إن كنت “عنيفا” في قولي في هذا المقام، فأنا أفضل وهم أفكاري و أفعالي ومواقفي اللاحتمية التي تبقى ضمن دائرة جهلي اللامتناهي على حتميات مؤدلجة ترهن إرادتي و حريتي في التفكير والنقد، تتركني حبيس ذات عارفة متناهية، و تعلّق زمن مستقبلي على عقارب ساعات الهيمنة و الشمولية الإبستمية مهما كانت مصادرها. 

إنّ متعة الحقائق – كما يؤكد عليها بوبر – لا يجدها الباحث في الحقائق اليقينية الجاهزة، و إنّما يجدها في الحقائق الصعبة و العسيرة. فالحتمية المحدودة الوحيدة التي يمكننا التسليم بها هي حتمية أخطائنا التي من شأنها أن تبعدنا عن التسلط و الدوغمائية و تقربنا من فكرتي التفتح و لا نهاية المعرفة.

إنّ التناول والتنظير الحتميين في سياق “الأزمات المستدامة” للمجتمع الجزائري وإشكاليات التحوّلات المجتمعية والمؤسساتية المرتبطة بها، تبعد الباحث الاجتماعي عن سياق الاكتشاف والتأويل أو سياق التفسير و التبرير الذين تحدث عنهما رايشنباخ (Reichenbach)، بل من شأنهما أن يموضعا نشاط البحث الأكاديمي في سياق حكم اليقين المقدس كنسق دوغمائي مغلق، يتجاهل الحقائق المتعددة للكون والمجتمع و يتجاوز ظواهره.

و بالرغم من كلّ المحاولات التيّ ميّزت البحث الفلسفي و الجهود التي بذلت فيه لمدّة تجاوزت قرنين من الزمن، يجمع المنظّرون الاجتماعيون أنّه لم يتمكن أيّ نسق أخلاقي، حتّى ضمن مجموعة فلاسفة الأخلاق ذاتهم، من أن يفرض نفسه كنسق فعّال. و أمام هذا الإخفاق، يبقى البعض من الجامعيين الجزائريين يصرّ على نقل المعطيات المجتمعية العلمية للمجتمع الجزائري إلى فضاء النقاش الأخلاقي المؤدلج، كانت الجزائر قد عرفته في سنوات خلت تحت مسميات مختلفة، أشهرها ” أسلمة ” العلوم الاجتماعية، ليعاد طرحه مؤخرا في بعض الكتابات التي يستنسخ فيها أصحابها الفكرة ذاتها من خلال مسمّيات أخرى كالمنظور القيمي و المنظور التراثي في تناول الظواهر الاجتماعية و التنظير لها. والحقيقة – من وجهة نظرنا على الأقل – أنّ مثل هذه الطرحات لا تعدو أن تكون مجرّد تسميات جديدة لوصفات قديمة، يتعمّد مروّجيها وأنصارهم على زرع الغموض السمنطقي وترسيخه عند وصف الأشياء والظواهر وتحديدها نظريا، والإيحاء ضمنيا على المستوى الذهني بأنها تشكل مترادفات لكلمات مثل: الإلهي أو الرباني أو الديني. كما يلاحظ من خلال التجربة الشخصية و معايشتي لمرحلة من مراحل تطوّر الجامعة في الجزائر، أنّ بروز مثل هذه الخطابات يمكن اعتباره على المستوى النفسي الاجتماعي مؤشرا عن بداية تقهقر الجامعة كمؤسسة لإنتاج الفكر و إعادة إنتاجه؛ و تبريرا أكاديميا يهدف إلى التأسيس لاحتكار سلطوي للمعرفة الاجتماعية في فهم الإنسان الجزائري، يمهّد للتأسيس لسلطة إيديولوجية و سياسية في حالة حدوث حراك اجتماعي في مراحل لاحقة. وعليه، أليس من الخطورة على المجتمع والجامعة أن ينتهج الجامعيون أسلوب المراوغة السمنطقية والتلاعب بالرمزي والقيمي والمقدس؟ «ثمّ ماذا تعني “إسلامية المعرفة” عندما تعمد إلى إعطاء نظرة شمولية وكلية للمسلم المعاصر نظرة إسلامية لكل شيء؟ ألم تحاول الشيوعية، التي تناهضها الإسلامية، القيام بنفس الشيء عندما طبقت، بجميع الوسائل، النظرة الشيوعية على كل شيء، وسخرت أجهزة الدولة والحزب لذلك؟» (بغورة،2000، ص 17).

ومهما يكن، فقد توصل مايكل روز (Michael RUSE) مستلهما أفكاره من أعمال مور (MOORE) وهيوم (HUME) والمنظور التطوّري إلى خلاصة مفادها أنّ الكائنات البشرية تعيش في وهم موضوعية المعايير والقيم الأخلاقية المتعالية النقية، في حين أنّ هذه الأخيرة لا تجد لها أيّ شكل من المبرّرات على مستوى المعاش النفسي الاجتماعي. و في رأينا، فإنّ الأمر يزداد تعقيدا عند محاولة فهم و دراسة مجتمعات “الأزمات المستدامة”، إذ يلاحظ الباحث أنّ التناقض الوجداني و تعارض الأزمنة و تناقضها هي من أقرب المفاهيم – في تصوّرنا – لاستنباط واقعها و تفسيره. وغالبا ما يظهر التناقض الوجداني في سياق العلاقات الاجتماعية الضيّقة، كالعلاقات الأسرية والعلاقات التي تميّز النسق الاجتماعي التقليدي القائمة أساسا على رابطة القرابة والدم والشبكات الاجتماعية التقليدية المهيمنة. و بالفعل فإنّ العيش تحت ثقل معايير النسق الاجتماعي التقليدي (الخضوع، الولاء و الانصياع، القوادة، الهشاشة و محو الذات و إنكارها، الخبث و النفاق، الحـﭭـرة…الخ) من شأنه أن يولّد التناقض الوجداني و يعزّز بروز هويات متناقضة في الذات الفردية. و يظهر هذا على الوجه الخصوص في إشكالية اللغات و مظاهرها عند الاستخدام والتواصل الاجتماعيين، و الدّين و تطويعه للأهواء و تناقضاتها، و التاريخ الرسمي و تغييبه لأبعاد الانتماء و الهوية. 

ومهما يكن، يبقى من بين الأخطار المحدقة بعمل الجامعيين في تناول المجتمع الجزائري وظواهره النفسية الاجتماعية، من دون شك خطر الشمولية المفاهيمية، أي ذلك النسق الفكري الذي يهدف إلى اختصار الواقع في كليته وتعدّد مستوياته، وفي تعقيداته وتناقضاته، في مفهوم واحد ووحيد مطلق، والاعتقاد سذاجة أنّه يشكل نهاية المعرفة. لماذا يراد أن نقابل الفردي (الانعكاسية، الذاتية، الكفاءات الفردية…) كنقيض للاجتماعي (المعايير، القيم، البنيات الاجتماعية…) وكأنّ الفرد والواقع الاجتماعي أو الحقيقة الاجتماعية يشكلان كيانين مختلفين وعالمين مستقلين من الناحية الأنطولوجية والمنهجية؟ وعليه، فإنّ بلومر (Blumer) يؤكد أنّ البنية الاجتماعية لا تشكل إلاّ مسرحا للفعل؛ فالثقافة والأدوار والطبقات الاجتماعية …الخ، تكوّن إطارا للسلوكيات من دون أن تكون المحدّد الحتمي والمطلق في حدوثها

و على أيّة حال، فمن البديهي أن يكون الموضوع الإمبريقي مغايرا و يتجاوز بناء الموضوع الإبستمي، لكن الخطر الذي قد يترتب من الطرح الحتمي في فهم التفاعلات و الممارسات الاجتماعية يكمن أساسا لمّا نعتقد و نوهم الآخرين بأنّ الموضوع الإبستمي هو الحقيقة المعرفية الوحيدة المطلقة التي نملكها وبأنّها تطابق كليا و بصفة حتمية مطلقة الحقيقة النفسية الاجتماعية الموضوع الإمبريقي. و عليه، فمن شأن هذه الوضعية التشويش على فهمنا للمجتمع في الصورة التي هو عليها أو كما هو– على حدّ تعبير بورديو- ؛ بحيث تخلق تنافرا منهجيا بين الموضوع الإمبريقي و الموضوع الإبستمي.

ترتكز القيمة العلمية لأيّ خطاب تنظيري على قدرة الباحث على تفسير أو تأويل الحقائق الاجتماعية المتعدّدة اعتمادا على أدوات منهجية صادقة تسهم في جعل هذه الحقائق النفسية الاجتماعية حقائق موضوعانية. و عليه، فإنّ مهمّة الباحث الاجتماعي هي التأسيس للموضوعانية و ليس الوصول إلى الحقائق المطلقة أو تصوير حقيقة مثلية و تسويقها على أنّها الحقيقة الاجتماعية المتناهية؛ ذلك أنّ هدف العلم هو الانتقال من معارف أقلّ صحة إلى معارف أكثر صحة؛ أي بمعنى التقليل من احتمال جهلنا بالأشياء و العالم و الكون و ليس الزيادة في معارفنا اليقينية.

إنّ العالم أو المنظّر الاجتماعي ليس من مهمته تعليم الفضيلة وتلقينها للناس أو تعليمهم معايير التصرّف والتعامل في الحياة الاجتماعية. كما لا يمكن له أن يرتجل ويعلن ذاته رسولا أو مصلحا باسم العلم؛ لأنّ ذلك من شأنه أن يجعل الكثير من الطلبة الجامعيين – بحكم التدهور الرهيب الذي تعرفه المنظومة الجامعية في الجزائر – ينجذبون عاطفيا نحو مثل هذه التصوّرات وينبهرون بها لأنّهم يجدون فيها وصفة سحرية جاهزة تحجب عنهم عجزهم في تناول الظواهر الاجتماعية والتفكير فيها نقديا ومواجهة الواقع في تعقيداته اللامتناهية. إنّ مثل هذه التصوّرات من شأنها على حدّ تعبير بوبر أن تجعل الفرد يقبل ” اعتقادا خطيرا بصورة غير نقدية و بشكل دوغمائي” (Popper, 1981 :53). والملاحظ في مثل هذه الحالات أن أصحاب هذه التصوّرات وأنصارها يتضرعون بالعلم لتبرير منظور دوغمائي مغلق يحمل في طيّاته إعلانا مستترا عن سموّ هذه التصوّرات وعفّتها عن باقي التصوّرات العلمية الأخرى.

ثانيا: العلم والتنظير العلمي ليسا مترادفين للحتمية القبلية المطلقة

في كتابه “مرافعة للاحتمية” يوجّه بوبر مجهود منهجه الفكري لتحطيم فكرة الحتمية و دعوته للاحتمية، مع التركيز على ضرورة التخلّي عن الواحدية المنهجية و النظرية. لقد علّمنا التاريخ الاجتماعي والسياسي للأمم، أنّ الحركيات والديناميكيات الاجتماعية هي التي تؤسّس لأزمنة المجتمعات وأفرادها؛ وبهذا المعنى فإنّه لا يمكن للحتمية أن تقدّم نموذجا لتحوّلها الاجتماعي والتاريخي. وفي هذا السياق، ينبغي التفريق بين الطبيعة الإنسانية كحتمية كونية، والإنسان ككيان اجتماعي يتفاعل مع لا حتمية الواقع. 

و مهما يكن، فإنّ أولئك الذين يسوّقون لبعض التصوّرات الحتمية، و بخاصة تلك التي تستعمل العلم مطية و تخفي نزعات إيديولوجية إسلاماوية، غالبا ما نجدهم يستخدمون اللغة و النص لبناء عالم موازي للحياة اليومية، يتغاضى عن تناقضاتها و يصرّ على صفائها، و يرفض أن تكون موضوع شكّ ومساءلة و نقد و مراجعة.

و من زاوية أخرى، فإنّ هذا المجتمع الماهوي و المتعالي الذي يصوّره البعض هو وهم مثلي (Fantasmatique)، لا وجود له إلاّ في مخيّلتهم فهو يفتقد للأدلة الأنطولوجية التي تبرّر وجوده، أو كما سمّاها هوّاري عدّي (2012) بـ “الدروشة الوطنية” التي “تخلق جزائر خيالية و مجرّدة (…) في مقابل جزائريين موجودين بالفعل”. كما لا يعدو أن يكون هذا الخطاب إلاّ خطاب خدعة للذات و خطاب مراوغة للآخر، نهايتهما التأسيس لبرمجة إيديولوجية، تجرّد الفرد من قدرته الطبيعية على التفكير و التشكيك و الفعل. كما تعبّر هذه الوضعية على ” جنوح الباحثين إلى التلويح “بسوسيولوجيا مشهدية” تبحث إيديولوجيا عن مجتمع لا وجود له أصلا بدلا من التفرغ لإنتاج سوسيولوجيا تؤول وتفهم تشرح المجتمع بصفة علمية. فالسوسيولوجيا تصبح (…) بمثابة الملجأ الذي نلجأ إليه لنسيان المجتمع أو على الأقل للتنازل عن معرفته كما هو مكتفين في ذلك بحلمه كما يجب أن يكون.”

إنّ أنصار هذا المشروع يطرحون هذا التصوّر من منطلق فهم مبسط وسطحي مؤدلج للدين، غير معلن صراحة، لا يكلّفهم عناء مواجهة فهم الواقع الجزائري في تعقيداته وتناقضاته اللامتناهية التي غالبا ما يعبّر عنها بمفهوم الأزمة، لأنّ ذلك من شأنه أن يؤكد هشاشتهم وعجزهم تجاه فهم هذا الواقع، المتعدّد واللاحتمي، ويدحض فكرة الحتمية التي ينادون بها. وعليه، فالفهم والتناول النفسي الاجتماعي، ليس طريقا أو مسلكا نحو اليقين الحتمي، كما أنّ المعتقدات والقيم ليست هي الأخرى حقائق قبلية، وإنّما هي حقائق بعدية تنتج ضمن مجال الفعل والحركة وليس الجمود والسكون.

يشير منجرس (Mingers)، أنّ العالم الذي يحيط بنا يحتوي على كيانات متباينة، تتمتع بخصائص أنطولوجية مختلفة؛ و هو الأمر الذي يبرّر التعدّد في الطروحات الإبستمولوجية. 

إنّ الإدعاء بوجود تصوّر حتمي وحيد يفسّر العالم و كياناته و ظواهره يؤدّي – مثلما يؤكد عليه رواّد مذهب الواقعية النقديةإلى الوقوع في الخطأ الإبستمي، أو على العموم الوقوع في الخطأ الأنثروبي؛ أي تحديد الكائن أو الوجود انطلاقا من الكائن الإنساني فقط. فالعالم كما يؤكد منجرس  هو أكثر تعقيدا ممّا نعرفه عنه أو ممّا نستطيع أن نعرفه عنه. و عليه، و بعيدا عن الإطار الأنطولوجي، فإنّ الواقعية النقدية تؤكد على فكرة أساسية تتعلق بتعددية المعارف، أي بمعنى التعددية الإبستيمولوجية. 

إنّ اختصار ممارسات الجماعات والأفراد من منظور وحيد وحتمي ومطلق، من المحتمل جدا أن يحرمنا هذا الموقف من الوصول إلى مفاتيح فهم عقلاني للظواهر والممارسات الاجتماعية النفسية الاجتماعية في كليتها وتعقيداتها. وكما تشير دانيال كرجوا (Danièle Kergoat) فإنّ العلاقات الاجتماعية تتميّز بالتعددية وتتعايش مع بعضها البعض جوهريا؛ بحيث يتيح هذا التعايش الجوهري بين هذه العلاقات والتفاعل المستمر بينها إمكانية نسج بنية المجتمع والدفع بديناميكيته. 

و ضمن هذا السياق، يؤكد مافيزولي(Maffesoli) أنّه ينبغي على السوسيولوجيا أن تقدّم وصفا ضمنيا عميقا للجوانب الفوضوية و غير المنظّمة و غير المنطقية في حياة المجتمعات؛ و هي جوانب نعتقد أنّها تميّز الحالة الجزائرية كفوضى العمران، وتغيير التركيبة الديموغرافية والثقافية للمدينة، وتفكك النسيج الاجتماعي وهيمنة البنيات الاجتماعية التقليدية، واستفحال ثقافة البداوة والعصبيات الضيّقة وإفشالهما لمشاريع التحوّل؛ وبخاصة في الجامعة والمؤسسة الاقتصادية والسلطة السياسية، وبروز العنف المادي و الرمزي كآليتين، تكاد أن تكونا الوحيدتين في تحديد العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، وأخيرا التغيّر في سوسيولوجية نشاط العمل: ظهور فئة البـﭭارة و البزناسية و التجار غير الرسميين. 

و مهما يكن، فإنّ هذا الموقف لا يلغي على الإطلاق إمكانية استخدام الباحث مفاهيم نفسية اجتماعية تفسّر الواقع الخاص بمجتمعه، مع الحرص على أن تستوفي هذه المفاهيم شروط الصرامة العلمية و المنهجية في فهم هذا الواقع و تحليله، و أن لا تتناقض مع الديناميكية التاريخية لهذه المجتمعات أو تتعارض معها، و أن تسمح أيضا بتأسيس انعكاسية و إضفاء دلالات و معاني ذات قيمة مضافة لهذا الواقعكما يعبّر عنه أنصار الإثنوميتودولوجيا. وحتّى في العمل الدوركايمي، فقد كان من الصعب بناء مثل هذا العمل من دون تحليل للمعاني الداخلية لهذه الأفعال، باعتبارها أفعالا معرفية غير مادية و لا تقع تحت قبضة المذهب السلوكي. 

إن رفض التراث العلمي “الغربي” ورفض الاستنباط قبليا كموقف مبدئي بحكم الاختلاف الثقافي ليس بالإجراء العلمي والمنهجي، وإنّما يعبّر في كثير من الحالات عن موقف إيديولوجي؛ إذ كيف نقبل دراسة وتدريس نظريات “غربية” وفي المقابل نرفض استخدامها في نشاط البحث، وكأنّي بالنشاطين منفصلين وغير متلازمين؟ بالإضافة إلى هذا، ينبغي التمييز في هذا الإطار بين الرفض الذي يعبّر غالبا عن موقف إيديولوجي مستتر وغير معلن وسيرورتي النقد والدحض اللتين تعتبران نشاطين فكريين وعلميين ممنهجين.

إنّ الحديث عن لا إجرائية عدد من المفاهيم المرتبطة بالتصوّرات النظرية “الغربية” انطلاقا من حجّة اختلاف السياقات النفسية الاجتماعية يبقى على مستوى التشخيص فكرة مقبولة. لكن ينبغي أن يستوفي هذا الدحض شروط المنهج العلمي بهدف بناء مفاهيم وتنظير علمي يأخذان بعين الاعتبار أبعاد السياق النفسي الاجتماعي “المحلي”. فالاختبار العلمي ينبغي أن يتم وفق سيرورة استنباطية؛ أي بمعنى مواجهة المواضيع الإبستمية بالمواضيع الإمبيريقية، وليس أن نواجه مواضيع إبستمية بمواضيع إبستمية أخرى، مهما كانت مصادرها، دينية أو أخلاقية أو غيرها، والإقرار بأنّها تدحض الأولى وتفنّدها، وأنها تشكل في حدّ ذاتها الصورة المطلقة للواقع والمعاش النفسي الاجتماعي المحلي.

 لقد أحدثت النسبية في المعارف العلمية الحديثة قطيعة عميقة مع الحقائق التي بقينا نعتقد أنها أبدية، ومكّنت الإنسان من التحرّر من قبضة الحقائق القديمة، التي غالبا ما ارتبطت بالمطلق والحتمية والمعيارية. وعليه، فإنّنا اليوم من الراجح أن نعيش في مرحلة الارتياب والشك، حتّى في أسس معارفنا عن ذواتنا والعالم الذي يحيط بنا. فالحقيقة العلمية بهذا المعنى، ليست حقيقة مطلقة و حتمية، و إنّما هي حقيقة نسبية و لاحتمية، إنّها حقيقة غير مكتملة، و بناء دائم و مستمر للمعارف، يدحض خطاب نهاية المعرفة و الحتميات التي لا يمكن المساس بها.

ثالثا : الفشل المستدام : آلية العطالة و إعادة إنتاج النسق الاجتماعي التقليدي

عرفت استراتيجيات التنمية التي اعتمدتها البلدان النامية منذ حوالي ستين سنة، إخفاقا وفشلا؛ وبخاصة في بلدان القارة الإفريقية. ولا يمكن، بطبيعة الحال، استثناء الجزائر من حالات الفشل المتعدّدة في هذه القارة، ومناطق أخرى من العالم. و من أهمّ صور هذا الفشل في الجزائر، هو محاولة الانتقال من إستراتيجية تصنيع ميّزت مرحلة الستينيات و السبعينيات إلى إستراتيجية تفكيك التصنيع بداية من سنوات الثمانينيات؛ و محاولة الانتقال من مرحلة الفلاّحين التقليديين إلى مرحلة العمّال الاشتراكيين وبعدها مرحلة المقاولين الليبراليين؛ وكأنّي بها تنتقل من فشل إلى فشل آخر تؤكده حاليا، على سبيل المثال لا الحصر، معطيات اقتصادية و اجتماعية و سياسية كثيرة نذكر من بينها : تحتل الجزائر حاليا المرتبة 152 من بين 185 بلدا في العالم من حيث سهولة ممارسة الأعمال (Doing Business, 2013) ، كما تراجع ترتيبها في السنة نفسها من المرتبة 134(2009) إلى المرتبة 136 (2010 و 2011) و المرتبة 148 (2012) ، و تحتل المرتبة 110 وفق مؤشر المنافسة العامة ضمن قائمة 144 بلدا (The Global Competitiveness Report 2013).

يشير التقرير العالميحول الإبداع لسنة 2012 الذي تعدّه المنظمة العالمية للملكية الفكرية (OMPI) و المعهد الأوروبي لإدارة الأعمال (INSEAD)  أنّ الجزائر تحتل المرتبة 124 عالميا فيما يتعلق بالمؤشر العام للإبداع من بين 141 دولة شملها التقرير. كما تشير دراسة الأمم المتحدة حول الحكومة الالكترونية لسنة 2012 أنّ الجزائر تعرف تأخرا في ميدان الخدمات الحكومية المرتبطة بتكنولوجيات الإعلام والاتصال الموجّهة للمواطنين؛ إذ تحتل الجزائر المرتبة 131 عالميا من مجموع 190 دولة شملتها الدراسة كما أنّها لا تظهر في المراتب العشرة الأولى في الترتيب الإفريقي.

و في دراسة أخرى (2011) أجرتها مؤسسة Business Software Alliance (BSA) ، التي تظم أكبر منتجي البرامج المعلوماتية و ناشريها، حول مؤشر المنافسة في صناعة تكنولوجيات الإعلام و الاتصال، تحصّلت الجزائر على مؤشر منافسة قدّر بـ 19.5 نقطة من مجموع 100 نقطة ( المرتبة 65 من مجموع 66 دولة شملتها الدراسة) يعتمدها التقويم العام وفق 06 متغيّرات : محيط الأعمال، البنية التحتية لتكنولوجيات الإعلام، رأس المال البشري، محيط البحث و التنمية، المحيط القانوني، دعم تطوير صناعة تكنولوجيات الإعلام. 

ومهما يكن، فإنّ المهمّ في هذا الإطار ليس سرد حالات الفشل وعدّها – لأنها كثيرة -، بقدر ما يكون مهما الوقوف عند محدّداتها النفسية الاجتماعية؛ إذ يلاحظ من خلال مراجعة الدراسات الاقتصادية والاجتماعية، وتقارير الخبرة لعدد من المنظمات الإقليمية والدولية، والمعالجات الصحفية، التي تطرقت لهذا الموضوع أنّه يتم تناوله من زاوية معيارية، أي انطلاقا من نموذج معياري يقع ضمن ثنائية نجاح/فشل؛ إذ كثيرا ما يبرّر هذا الفشل على أنّه نتيجة منطقية بسبب غياب عوامل وظروف موضوعية في سيرورة البحث عن النجاح.

والواقع، أنّ هذه الاستنتاجات وإن كانت صحيحة في بنائها التحليلي من منظور معياري، فإنّها تبقى لا سياقية من حيث الفهم النفسي الاجتماعي، إذ تحجب علينا فهم المحدّدات النفسية الاجتماعية للفشل في المجتمع الجزائري. ولعلّ الإجابة عن هذا الانشغال قد نجدها في فهمنا لطبيعة النسق الاجتماعي التقليدي الذي يميّز تسيير المجتمع.

رابعا : ماذا نعني بالنسق الاجتماعي التقليدي ؟

لا نعني بوصف النسق الاجتماعيبأنّه تقليدي، على أنّه قديم ويحتوي على التقاليد فقط، وإنّما ” يدلّ أيضا على عجز الأفراد على التحكّم في ظروف حياتهم وتوجيه مستقبلهم تبعا لمتطلّبات الساعة. وعادة ما يكون هذا النسق غير مدوّن كتابيا؛ فكلّ شيء فيه مسجّل ومحفوظ في الذاكرة الفردية والجماعية لهؤلاء، ثمّ يعاد استرجاعه وتبليغه شفهيا ” (Medhar, 2005 :31). بالإضافة إلى ذلك ومن ناحية نظرية، فإنّ وصف هذا التنظيم بالنسق يعني أنّ كل عناصره ترتبط ببعضها البعض في إطار علاقات منظّمة ومتضامنة ومنتظمة (انظر الشكل:1). 

يشير إيفانس – بريتشارد و ميار فورتس (Evans – Pritchard& Meyer Fortes)، أنّ تاريخ الإنسانية لم يولّد إلاّ نظامين من الحكم و نسقين منظّمين و محدّدين من المجتمع: الأوّل، و هو الأقدم تاريخيا، يعتبر نظاما اجتماعيا تأسس على العشائرية و القبلية؛ أما الثاني، و هو أحدث تاريخيا من الأول، يعتبر تنظيما سياسيا تأسس على الإقليم و الملكية. وعليه، يتبيّن أنّ النسق الاجتماعي الحديث ظهر عندما أخذ الإطار الإقليمي مكان روابط القرابة ورابطة الدم كأساس يحدّد النظام السياسي في المجتمع. 

الشكل (1): مكوّنات النسق الاجتماعي التقليدي كنسق مغلق

و يعدّ النسق الاجتماعي التقليدي نسق مغلق، يقوم أساسا على روابط القرابة و العشائرية ورابطة الدم، و يتخذ من ثقافة البداوة مرجعية لقولبة السلوكيات و الممارسات و تنميطها، يرفض التفتح و التحوّل الاجتماعيين. كما أنّ الديناميكية الوحيدة التي تحرّكه هي السعي نحو إعادة إنتاج ذاته ضمن أطر الثبات و الجمود و الهيمنة الدائمة و المستمرة على الأفراد و تجريدهم من ذواتهم الفاعلة. وعليه، يظهر أنّ النسق الاجتماعي التقليدي هوّ في حدّ ذاته إقصاء قسري لديناميكيات التحول الاجتماعي وسيرورات التحديث. كما يبدو هذا النسق كالنقيض التاريخي للحداثة و عمليتي التحول و التحديث الاجتماعيين، فهو نسق ما قبل – رمزي، يفضل أعضاؤه التعامل مع المجسد و لا يمكنهم فهم الأشياء بعيدا عن هذا التجسيد المادي البدائي الخالص الذي لا يبذل فيه الإنسان جهد و عناء التفكير في الأشياء و جماليتها، فالتجريد و العقلانية و الرمزية هي المقابل السالب لهذا النسق.

و مهما يكن ، فإنّ النسق الاجتماعي التقليدي – في نظرنا – هو أشبه ما يكون نتاج الإرادة العضوية التي تحدّث عنها تونيس (Tönies)، و الشكل الاجتماعي الذي ينشأ منها؛ فالإرادة العضوية تطوّر الطائفة، لأنّ طبيعتها تقع على المستوى العاطفي و اللاعقلاني في تحديد العلاقات، بحيث يتم التماثل فيها بصورة عاطفية، أو ما يمكن أن أسميّه بـ”مجتمع ما قبل الفكرة”. فالثقافة التقليدية، و إن كنّا نحجبها و نحاول بشكل منظّم إخفاءها، يتبيّن في الأخير من ملاحظات الحياة اليومية أنّها هي التي تنتظم حياتنا الاجتماعية منذ القدم.و ضمن هذا السياق، فقد أشار روبارتس (Roberts) خلال المحاضرة التي ألقاها بالجزائر في مناقشات جريدة الوطن الجزائرية بتاريخ 9 أفريل 2010 أنّ كلّ ” محاولات الإصلاح التي بادرت بها الجزائر بداية من التسعينيات كانت لها نتائج مؤسفة “. و قد فسّر روبارتس هذا الإخفاق بهيمنة ” القطاع اللاّرسمي على القطاع الرسمي في النظام السياسي الجزائري. فالعلاقة بين اللاّرسمي و الرسمي، هي المصدر الأساسي لفشل الإصلاحات”. 

و عليه ، فقد يقول قائل كيف يمكننا الحديث عن النسق الاجتماعي التقليدي في جزائر العقد الثاني من القرن الواحد و العشرون (21) و زمن العولمة. وحقيقة الأمر أن مرحلة ما بعد الاستعمار ليست مجرّد مرحلة بسيطة تختصر في منظور زمني يعبّر عن انتقال من قبل إلى بعد الاستعمار، وإنّما هي عصر مجتمعي معقد يتركب من أزمنة متعدّدة. و بطبيعة الحال يؤثر في هذا العصر منظور زمني بعينه و يشكل فيه توجّها غالبا؛ و في حالة النسق الاجتماعي التقليدي بالذات، فإنّ الماضي بشكل عام و الماضي المقدّس بشكل خاص، هو المنظور الزمني الغالب و المهيمن في المجتمع، باعتبار أن الجمود و الثبات و السكون من خصائص هذا النسق.

إنّ النسق الاجتماعي التقليدي غير مبرمج أصلا للبحث عن النجاح، بل على العكس من ذلك نجد فيه البرمجة الثقافية للأفراد غالبا ما تكون موجّهة نحو تكريس الفشل واعتماده كآلية عطالة وإعادة إنتاج ذاته؛ فالإفشال والفشل في سياق النسق الاجتماعي التقليدي هما القاعدة، والإنجاح والنجاح هما الاستثناء. وعليه، يظهر أنّ حالة الفشل في المنظمات والمؤسسات التي رهن مستقبلها النظام الاجتماعي التقليدي، هي ليست نتيجة محتملة لإرادة اختيارية للنجاح، وإنّما نتيجة قطعية لإرادة اختيارية للإفشال.

خامسا: الريع و العلاقات الريعية: هدر لطاقات الجزائري ولكينونة المجتمع بأكمله

تبقى الجزائر شديدة التبعية للمحروقات، بالرغم من الخطاب الرسمي الذي ظل يسوّق لفكرة التنويع في الاقتصاد منذ ما يقارب ثلاثة عقود، من دون أن نلمس لهذا الخطاب الشعبوي امتدادا على أرض الواقع. فمنذ منتصف السبعينيات، وفي كلّ سنة كانت المحروقات تمثل أكثر من 95 % من صادرات البلد. كما إنّ معدّل نمو الناتج الداخلي الخام الحقيقي والذي قدّر بـ 3.7 % خلال العشرية الماضية، أتى في مجمله أساسا من الأداء الذي حقّقه قطاع المحروقات، الذي جلب أكثر من 97 % من مداخيل الاستيراد، و 70 % من مداخيل الميزانيات و 45 % من الناتج الداخلي الخام. و قد كان لهذه التبعية نتائج سلبية عديدة، كان من أخطرها أن الريع الاقتصادي رهن مستقبل مجتمع بأكمله، و أنتج نظاما زبائنيا طفيليا كبح تطوّر أنشطة اقتصادية حديثة و غيّب منذ الاستقلال ظهور دولة المؤسسات. 

و في هذا السياق، يؤكد بلاّل (Bellal) أنه إذا كان ريع المحروقات قد كبح التنمية في الجزائر، فذلك لأنّه لم يستعمل أبدا كقيمة تبادل مدمج في منطق تجاري شامل، و إنّما استعمل كقيمة استخدام؛ أي كثروة موجّهة للتخلص منها عن طريق بعثرتها في الاستهلاك. و عند تحليله لآثـــار الثروة البتروليــــــة، يشيــــــر ريــــكس برينــــان (Rex Brynen) أنّه إذا كانت هذه الثروة قد استعملت كعملة تبادل من أجل تحقيق التوافق ، فإنها في المقابل أخّرت التحوّل الديمقراطي في الدول الريعية في العالم العربي. و هنا أيضا، و بقدر صحّة طرح ريــــكس برينــــان، فإنّنا نعتقد أنّ الثروة الريعية في الجزائر لم تؤخر فقط التحوّل الديمقراطي، و إنّما عطّلت سيرورة التحوّل الاجتماعي: التحول من نسق اجتماعي تقليدي إلى نسق اجتماعي حديث. و في هذا الشأن يؤكّد الأنصاري (2003) أنّه من الخطأ بمكان أن نختصر جذور مشكلات التنمية في البلدان العربية في مسألة إشكالية التنمية الاقتصادية ، بل ينبغي البحث عنها في إشكاليات التحوّل التاريخي الذي عجزت عن تحقيقه هذه المجتمعات

و على أية حال، فإنّ لهذه الوضعية في المجتمع الجزائري محدّداتها النفسية الاجتماعية، تتمثل أهمّها في هشاشة الإنسان الجزائري و تعلّقه المفرط بالأم المغذّيـة (mère nourricière) أو بصورتها و قلق الانفصال عنها، عبر كلّ مراحل سيرورة التنشئة الاجتماعية. وعليه، فإنّ استقرار النظام السياسي الظاهر في الدول الريعية الأوتوقراطية، لا ينبغي فهمه – في اعتقادنا – كنتاج للقهر والردع البوليسي والمخابراتي فحسب – وإن كان هذا العامل صحيحا-، وإنّما ينبغي التساؤل عنه والبحث في جذوره النفسية الاجتماعية أيضا، وبخاصة تلك المرتبطة بالحماية الشاذة التي يضمنها النسق الاجتماعي التقليدي عن طريق توزيع الريع، بنفس الكيفية التي يتعلّق بها الجزائري بالأم المغذية وتعلّقه بها أو بصورتها، وتمسّكه بحمايتها ورعايتها إلى سنوات متأخرة من عمره.

إنّ تحقيق استقرار في الاقتصاد الكلّي والاعتقاد سذاجة أنّه العامل الحاسم في تحقيق النمو، لا يعدو أن يكون إلاّ وهما مزيّفا؛ إذ أنّ وجود مثل هذا الاستقرار في ظلّ غياب شبه مطلق لمؤسسات سياسية و اجتماعية حديثة و شرعية كنتاج لديناميكيات و تحولات مجتمعية واعية، لا يمكن أن يؤسس للإبداع و النمو المستدام، بل من شأنه في ظلّ غياب هذا الشرط، أن يستخدم في تدعيم الأنشطة الريعية و تقوية سلطة زبانية النظام الريعي ورموز النسق الاجتماعي التقليدي.

خلاصة

يستنتج مما سبق أن البحث النفسي الاجتماعي في الجزائر يعاني من وضعية مرضية معقدة، تتداخل فيها عدّة عوامل مركبة زادت من حدّة الانفصام في هويته وقدرته على الاستجابة لمتطلبات تحوّلات المجتمع الجزائري وفهم محدّداتها النفسية الاجتماعية. و تترجم هذه الحالة إلى حدّ بعيد الموقف الذي ذهب إليه الباحث سعد الدين إبراهيم لمّا أشار أنّه من النادر في المجتمعات العربية الحصول على عمل علمي سوسيولوجي يمكن أن يلبي حاجة السائل عن فهم الحقيقة و الواقع العربي الحديث بشكل موضوعي و شامل. كما أنّ النمو النوعي في علم الاجتماع لم يتواءم مع جوانب النمو الأخرى في الوظيفة أو الدور الذي يمكن أن يقوم به علم الاجتماع في صياغة الحاضر وفي التمهيد للمستقبل؛ إذ أنّ المتخصّصين لم يساهموا بالقدر الكافي في صياغة مشكلات مجتمعاتنا المعاصرة وتفسيرها، أو في اقتراح الحلول المطلوبة لهذه المشكلات.

إن أولى التحديات التي ينبغي علينا مواجهتها في سيرورات البحث الاجتماعي و إدارته هي تلك المرتبطة أساسا بمسائل المناهج و التناولات و الأدوات المنهجية باعتبارها منافذ عقلانية للتفسير و التأويل. و ثاني هذه التحدّيات هي السعي نحو ترسيخ أسس التفكير العلمي في تعدّدية مناهجه و تكاملها لدى الباحثين المبتدئين بعيدا عن وهم حتميات مثلية مؤدلجة تشعرهم بأنّ دحضها و تعديلها هو مساس بقدسيتها. 

إنّ القطيعة الإبستيمولوجية التيّ تحدّث عنها باشلار (Bachelard) لابد أن تكون في بعض مفاهيمنا الساذجة لطبيعة المجتمع الجزائري والآليات النفسية الاجتماعية التي تنظمه، والتي نعتقد أنّها تشكل عائقا نفسيا ومعرفيا أمام سيرورات التحوّل الاجتماعي في حدّ ذاته، وسيرورات إنتاج معارف علمية تتيح لنا فرصة التقليل من جهلنا به وبظواهره.

  1.  أستاذ التعليم العالي بكلية علوم الاعلام والاتصال، جامعة الجزائر 3
  2. “المـﭭابرة” هي كلمة من اللغة العامية الجزائرية، و تعني تربص الفرص بمكر و دهاء و أنانية ضيّقة
  3. يستخدم مفهوم الكينونة في هذا السياق للدلالة على الوجود الفاعل و الديناميكي للمجتمع وقدرته على التغيير، فهو أقرب للطرح الذي جاء به جورج سيمال (George Simmel) الذي يعتبر أنّ الكينونة تتضمن التغيير و السيرورة. فالكينونة بهذا المعنى ليست جوهر ثابت، وإنّما عملية تغيّر مستمرة للحياة.
  4. التصوّرات الحتمية هي تصوّرات مبنية على أساس ميتافيزيقي يؤكّد على إمكانية التنبؤ بالأحداث و الظواهر ، و تشيد بالنظرة المغلقة و الخطية للكون و المجتمع و ظواهرهما. ويعتبر بوبر الموقف الحتمي في الأصل موقفاً دينياً متصلاً بفكرة القدرة الإلهية الكلية والعلم الكلي، الممنوحة للوجود 3
  5.  يقصد بمصطلح مجتمعات “الأزمات المستدامة” تلك المجتمعات التي بقيت رهينة أزمات متعاقبة، لا متناهية و مستمرّة في الزمان عبر مختلف مراحلها التاريخية ؛ لا تكاد أن تخرج من أزمة حتى تدخل في أزمة أخرى. 4
  6. ينبغي التمييز في هذا الشأن بين خاصية ثبات وسكون الكون والأنساق التي يمكن دحضها، وخاصية الانتظام باعتبارها مسلّمة منطقية لفهم الكون وظواهره. 5
  7.  « …il n’existe aucun langage théorique neutre, aucune position avantageuse pour le « visiteur pur », nous choisissons et nous façonnons plutôt nos « faits » (et nos résultats) en les filtrant à travers les concepts linguistiques que nous utilisons. Bref, toute connaissance (de la nature et de la société) est une conceptualisation. » (M. Archer, « Théorie sociale et analyse de la société », Sociologie et sociétés, Vol. 30, n° 1, Printemps 1988, p. 10. (6)
  8.  Passeron, Jean-Claude, 2006 [1991]. Le raisonnement sociologique. Un espace non poppérien de l’argumentation. Paris: Albin Michel. 7
  9. نقلا عن : إدوارد كونت و روجر هيكوك ، ” عوائق بناء المنهج ، مقاربات زمكانية و نهاية البداية”. البحث النقدي في العلوم الاجتماعية ، جامعة بير زيت 2011 ، ص 12.
  10.  الحتمية المحدودة هي تلك الحتمية التي لا تلغي فلسفيا فكرتي الحرية والصدفة – على عكس الحتمية المطلقة – في فهم سيرورات الظواهر الاجتماعية وحدوثها. 
  11. يقصد بالدوغمائية في هذا البحث تلك الحالة الفكرية و الاجتماعية و السياجات الانغلاقية – وفق المنظور الأركوني – التي تعوق تحوّل المجتمع و تعرقله من خلال تحكمها بمسارات الحياة المختلفة، و فرض الجمود و إقامة سياج معتقداتي خاص يمنع إعادة النظر فيه و في الأسس الفكرية و السلوكية التي بني عليها النسق الاجتماعي التقليدي. 
  12.  لا يقصد بالحرية في هذا السياق إمكانية فعل أيّ شيء من دون قيد ؛ بل يقصد بها الآلية المجتمعية التي تسمح لنا من الانتقال إلى الحداثة في معناها الذي أشار إليه هشام شرابي عند تعريفه لها بأنّها عملية ” تحوّل من نمط معرفي إلى نمط معرفي آخر، يختلف عنه جذريا، و هي انقطاع عن الطرق التقليدية لفهم الواقع و إحلال أنماط فكرية جديدة” . انظر في هذا الشأن : هشام شرابي، النظام الأبوي و إشكالية تخلف المجتمع العربي، تر: محمود شريح، دار نلسن، السويد، ط4 ، 2000 ((

انظر في هذا الشأن:

Clavien C. « Comment les données scientifiques et les théories évolutionnistes transforment l’éthique normative », In : Clavien, C. & El-Bez, C. (eds.), Morale et évolution biologique ; entre déterminisme et liberté, Lausanne : PPUR, 2007.

 يشير مفهوم التناقض الوجداني إلى تجربة مشاعر ممزوجة ومختلطة، بل يدل على وجود قوتين للمعاني متناقضتين تتعايشان مع بعضهما البعض. كما يشير المفهوم في علم النفس إلى حالة نفسية وجدانية لشخص ما يعاني في مواقف معيّنة من مشاعر متناقضة.

Publications du même thème

D'autres articles

© 2019, Prisma All Rights Reserved.

Scroll to Top